الليلة قبلها، سجّلت اسمي في جولة إلى أزنغول مع وكالة اقترحتها عليّ صديقتي سارة. الوكالة كانت لعائلة سورية، وهذا ما جعل التواصل والتسجيل أكثر سهولة.
وصلت الحافلة أمام الفندق تمام الساعة 10:15، ثم انطلقت في جولة على بعض الفنادق الأخرى لاصطحاب بقية الركاب.
كانت هذه أول مرة أشارك فيها في رحلة منظمة مع أشخاص لا أعرفهم، امتلأت الحافلة بالركاب وجلس بجانبي شاب سعودي يُدعى عادل، كان مسافرًا مع زوجته. وبما أن بين الركاب شابة سعودية تسافر وحدها، فقد قرّر عادل أن يترك مكانه لها لتجلس بجانب زوجته.
كان عادل ودودا للغاية، وبشوشا لأبعد حد، وأقول جازما أنه كان البلسم في الباص، هو الذي تكلف بإذابة الجليد وخلق جو من الفرح والمرح والتآلف بين الركاب.
وما بين جبال طرابزون الخضراء وضباب أزنغول الساحر، شهد ذلك اليوم مواقف ولقطات لا تُنسى، بعضها طريف، وبعضها مدهش، وبعضها الآخر ترك في النفس أثرًا عميقًا.
وهنا أفتح صفحة تلك اللحظات، لأروي ما كان، بلا ترتيب زمني، فقط كما بقي عالقًا في الذاكرة.
* تحدثت وعادل، عن بونو والهلال والدوري السعودي، عن كأس العالم وتألق منتخبنا، عن كليشيهات من هنا وهناك، عن الموسيقى (حتى أنه أسمعني أغاني مغربية لم أكن أعرف بها) والسياحة والسفر، عن سياقة المرأة في السعودية بين المنع والنضال النسوي والتقنين. حتى أنه اتصل بصديق رحال له ليعرفه عليّ.
* صادقت في الرحلة أيضا، عراقيين، حازم ومؤيد، رجلان وقوران في عقدهما السادس أو السابع. في حديثي مع حازم، كان فخورا بشيعيته، حدثني عن أربعينية الإمام الحسين، مناسبة دينية شيعية تُحيى بعد مرور أربعين يومًا على ذكرى عاشوراء (ذكرى مقتل الإمام الحسين بن علي وأهل بيته وأصحابه في معركة كربلاء)، حدثني عن طريق المشاية (حجاج يتوجهون نحو كربلاء مشيا، لمدة تصل لأيام)، في أكبر تجمع ديني سنوي على مستوى العالم، برقم يفوق ال20 مليون زائر. يتصادف تاريخ الأربعينية هذا العام مع 16 غشت، لوهلة فكرت في تغيير خططي وتوجيه بوصلتي لكربلاء.
* في حديثي بعدها مع حازم، سألته عن الوضع في العراق أيام صدام، صدام الذي عرفناه وسُوق لنا على أنه بطل وحامي العروبة وعرين الممانعة، أجاب أنه لا يختلف عن أقرانه، دكتاتور، سفاح، مارس على العراقيين سياسة التجويع. وعن المالكي قال: كلب ابن كلب، على الأقل قبل، مع صدام، كان اللي يسرقنا واحد، الآن الكل يسرق خيرات الوطن، حتى الفئران، في إشارة لتصريح لمسؤولة بالبنك المركزي العراقي مفاده: أن الفئران التهمت وأتلفت 600 مايون دولار.
* في طريق العودة، تعاقبنا على الغناء والرقص داخل الحافلة. كان اثنان من الفلسطينيين برفقة زوجتيهما يؤديان الدبكة بإيقاع سريع ونابض بالحياة. وبينما أتابع هذا المشهد، خطر في بالي سؤال: كيف لبعض الذين يعلنون دعمهم للقضية الفلسطينية، أن يحرمونا من الفرح والبهجة؟ في الوقت الذي يعيش فيه بعض أبناء فلسطين ومن يعانون من ويلات الحرب حياتهم بكل الواقعية بفرح. ذكرني المشهد أيضا بذاك الذي يلقي النكات في العزاء.
فهمت نهاية اليوم، أنه وجب علي التخفف من عبئ البحث، حتى يأتيني ما أبحث عنه... المعنى
أختم تقرير هذا اليوم بنص من رواية سدهارتا بدون تصرف..
قال جوفيندا: «أنا عجوز حقًّا، ولكنني لم أنقطع قط عن البحث ولن أنقطع أبدًا. ويبدو أن هذا هو قدري. ويبدو لي أنك بحثت أنت أيضا. فهلا حدثتني عن هذا قليلاً يا صديقي؟».
قال سد هارتا: «ماذا يمكن أن أقول لك مما له قيمة، إلا إذا قلت لك إنك تبحث أكثر من اللازم، وإنه نتيجة لبحثك هذا، فإنك لا تستطيع أن تجد».
فسأله جوفيندا: «وكيف هذا؟»
قال سد هارتا: «عندما يبحث إنسان يحدث - في سهولة تامة - أنه لا يرى إلا الشيء الذي يبحث عنه، وهذا معناه أنه عاجز عن أن يجد شيئًا، أو أن يستوعب شيئًا، وذلك لأنه لا يفكر إلا في الشيء الذي يبحث عنه؛ لأن له هدفا، ولأنه أسير هذا الهدف والبحث معناه: أن يكون لك هدف. أما العثور فمعناه: أن تكون حرًا، أن تكون متلقيًا، ألا يكون لك هدف، وأنت - أيها الشيخ الوقور - ربما كنت باحثًا بحق، لأنك بسعيك نحو هدفك لا تبصر كثيرا من الأشياء التي تمر تحت أنفك».
ملاحظة: تقرير هذا اليوم، تمت صياغته في اليوم السابع عشر.