اليوم 12 و13 و14 - جولة 2025 - كاپادوكيا

أضيف بتاريخ 08/18/2025
محمد توفيق المغازلي

كاپادوكيا، منطقة تتميز بتضاريس غريبة، وصخور مخروطية ناتجة عن براكين قديمة. أعطاها صيتا عالميا، الكنائس والجداريات والأديرة والمنازل المنحوتة في صخورها، ما يعطيها شكل كهوف ولكن من إبداع سكانها الأقدمين. أغلبها ازدهر قبل ستة عشر قرنا، ومنها ما يتجاوز عمره الألفي سنة.

وصلت گوريم (البلدة المركزية بكاپادوكيا) بعد الزوال، أخذت مكاني في الفندق، سبحت قليلا وقرأت، ثم خرجت أستكشف المكان. انبهرت من جمالها والمشي في الشوارع بين جبالها، وغروب الشمس من تلة عالية تطل على البلدة كلها.

بعد ليلة هانئة، تعشيت فيها عشاءً كوريا في سقيفة مطعم آسيوي هادئ، بسيط وجميل. استحممت ونزلت للردهة أتناول فطوري. التحقت فتاة بطاولتي وحيَّتني: "بونجور". أحسست بسعادة غامرة، وكأني التقيت بأحد أفراد عائلتي بعد غربة، رددت التحية وبُحت لها بسعادتي أن التقيت أحدا يتكلم الفرنسية، وكيف أني افتقدت التواصل في ما سبق من أيام، قدمت نفسها وكذلك فعلت، اسمها ماتيلد، فرنسية، 22 سنة، مسافرة منفردة، تكلمنا عن وِجهاتنا السابقة واللاحقة، وتجارب ولقاءات السفر. ثم انخرط في النقاش ستيفان، كندي فرونكوفوني، 55 سنة، يسافر منفردا أيضا، للسياحة، والبحث عن بلد للاستقرار. قبل ذلك، استقر بالمكسيك أربع سنوات، لم يتأقلم وتعرض للنصب من طرف حرفيين، فقرر تغيير المكان.

بعد حديث دام ساعتين، ودَّعنا ماتيلد، وسألني ستيفان عن برنامجي لليوم، أجبته : "ليس لدي برنامج 😅، وأنت؟"، أجابني بأن تلى علي لائحة مزارات: قلاع، ومتاحف، ووديان. خرجنا، تكلف هو بلائحة الوجهات، ونظرا لتجربتي الكبيرة في دك طرقات تركيا بالباصات (الكبيرة منها والصغيرة)، تكلفت بتنسيق لوجيستيك النقل. مر اليوم جميلا، مليئا بالثقافة والنقاشات وتبادل الأفكار والتجارب.

مساءً، خارجا لأتعشى، مررت على ستيفان الذي كان يحتسي جعة بجانب المسبح، سألته إن أراد الخروج للأكل، بينما أنا أحاوره، قاطعنا شاب ثلاثيني، اسمه مودي، نمساوي، ومسافر منفرد كذلك. قدِم للبلدة بتوصيلة مجانية، مع بورند، ألماني ثمانيني.
عرض علينا مودي جولة سياحية لمدة يوم واحد مع بورند، وبسيارته، نزور فيها بلدات وقرى وكنائس كاپادوكيا الغابرة، بمقابل 15 أورو، وافقت ووافق ستيفان، وحددنا موعدا، 8:00 صباح اليوم الموالي بردهة الفندق. خرجنا ليلتها ثلاثتنا للعشاء، بعدها ذهبنا لحضور فعاليات مهرجان محلي.

تمام 8:00 صباحا، من اليوم الموالي، كنا أربعتنا في الردهة، أخبرنا مودي أن مستحقات الجولة أصبحت 20 أورو، لم نعترض. قصدنا محلا للبقالة لشراء أغراض الفطور، ثم السيارة، لتبدأ واحدة من أحسن تجارب حياتي السياحية.

توقفنا في موقع سياحي غير بعيد عن البلدة، أعددنا الفطور. وبدأ مرشدنا يعطينا نبذة عن تاريخ المنطقة وسكانها وأسباب بنائهم بيوتهم فيها بتلك الطريقة... حز في نفسي أنه بعد أن شاع اسم كاپادوكيا سياحيا على مستوى العالم، وبعد أن كانت البيوت في الجبل وأراضي المنطقة مملوكة لسكانها، قررت الدولة تأميم المنطقة كلها ونزع الملكية من أصحابها، فعمد بعضهم كرد فعل على ذلك، بأن خربو ما استطاعو من جداريات الكنائس والأديرة.

انطلقنا بعدها مع بورند في مغامرة لم يشاركنا فيها أي سائح آخر، أربعتنا فقط، تائهين بين جبال صامتة. توقفنا أكثر من عشرين مرة، دخلنا بيوتًا محفورة يتجاوز عمقها ثلاثين مترًا، وكنائس مطمورة في قلب الجبل، ومطابخ وأديرة لا يصلها ضوء النهار. كنا نتنفس الظلام، نقف حينًا، نزحف على أربع حينًا آخر، نتسلق الصخور أو ندخل جحورًا عميقة لا نرى آخرها. حتى أننا دخلنا خفية واقتحمنا ممتلكات خاصة مهجورة. كان إحساسًا مزيجًا بين المغامرة والرهبة.

أمضيت ذاك اليوم مرات أسائل نفسي: أ أنا في حلم أم حقيقة؟ صورت كثيرا وفي النهاية استسلمت، لا صورة تنقل جمال وبهاء المكان.

كان بورند، لا يغلق السيارة بعد أن نترجل منها. وكان يخبرنا ونحن في السيارة، عن بعض خصوصيات البلد وسكانه، ومعلومات من تاريخ تركيا وقوانينها، جاء أول مرة هنا قبل 23 سنة، لم يتجاوز حينها عدد المناطيد في سماء كاپادوكيا عشرة مناطيد، مقابل 160 منطادً حاليا عند شروق كل صباح. لم تكن الفنادق المصنفة ولا الطرقات المعبدة والبنية التحتية كما هي الآن، لم تكن المدينة مستلبة بالسياحة.

توقفنا عصر اليوم للغذاء ببلدة مصطفى باشا، التقينا إيريم، فنانة شابة نباتية، مصورة ومدافعة شرسة عن حقوق الحيوانات، تشرف على معرض في كنسية، وبعد حوار مطول، عرجنا على سياسة البلد، وأبدت امتعاضها ككثير ممن التقيتهم في الأيام السابقة، مصيفة أن الحزب الحاكم، ترجح كفته أساسا في أواسط غير المتعلمين.

عند الساعة التاسعة مساءً، عدت إلى الفندق منتشيًا. تساءلت وتأملت، وبدأت أفكر في تلك السلسلة من الأحداث التي نسجت يومي: كيف أنني لم أكن أنوي سوى دعوة ستيفان للعشاء، فإذا بي ألتقي بمودي في تلك اللحظة بالذات، وكيف قادنا عرضه إلى بورند الألماني الذي يعرف دروبًا بعيدة لم يكن ليصل إليها سائح منفرد مثلي. وجدت نفسي في أماكن حلمت برؤيتها، بيوت غابرة في قلب الجبال، أديرة وكنائس منسية، ظننتها بعيدة المنال، فإذا ب"الصدفة" تفتح لي أبوابها، وتمنحني يومًا كأنه حلم ممتد حتى الغروب.