مساء اليوم 13، بعدما اقترح علينا مودي الجولة مع المرشد، تبادلنا أرقام الهواتف، سلمني هاتفه لأكتب رقمي، ظهرت لوحة مفاتيح بالعربية، لم أستغرب للأمر، لأن مودي كان قد أخبرني أنه يفهم ويتحدث قليلا العربية الشامية، غيرت اللغة، فظهرت حروف عبرية، ليستدرك بسرعة: "لدي لغات كثيرة في لوحة المفاتيح"، ابستمت وغيرنا الموضوع، ولكن مع نفسي شككت في أنه مزدوج الجنسية، نمساوي إسرائيلي، وتحرَّج من أن يخبرني، لأنني مغربي. لم أحاول الضغط لأعرف أكثر، وتعاملت معه بمثل ما يتعامل معي به من لطف وخفة دم.
في اليوم الموالي، الذي أمضيناه نتجول في مناطق كاپادوكيا الغابرة، سألني عن وجهتي الموالية، أخبرته أنها ستكون قونيا، سألني عن السبب، خاصة وأن قونيا ليست من المزارات الشائعة عند السياح، أخبرته أني بعد مطالعتي "قواعد العشق الأربعون" لأليف شفق، أصبح عندي ارتباط روحي وعاطفي بهذه المدينة، وأن مقامي بتركيا لن يكتمل دون زيارتي لها. أخبرني أن له أصدقاء بها، وأقترح علي أن يرتب لي لقاءً معهم، وافقت طبعا دون تردد.
بعد يومين، شددت الرحال نحو نڤزير من گوريم، التقيت مغربيين في الباص، تحدثنا عن رحلاتنا في تركيا. ثم أخذت باصا في نڤزير نحو المحطة الطرقية، لم تشتغل بطاقتي البنكية لدفع مستحقات الرحلة، فدفع عني شاب تركي دون أن أطلب منه ذلك، ونزل من الباص دون أن بنتظر مقابلا. جلست بجانب شاب آخر كان من وجهني للباص ولمكان المحطة، كان سعيدا وهو يتقاسم معي ما يعرفه عن المغرب ويسألني عن رحلتي في تركيا.
استقليت الباص نحو قونيا، وقبل وصولي بحوالي ساعتين، توصلت برسالة عبر الواتساپ من مودي، يخبرني أنه مرحب بي، ومدني برقم هاتف أورا.
راسلتها وقدمت نفسي لها، ردت علي بالترحيب، واقترحت علي الثامنة مساءً من نفس اليوم كموعد للقاء، وأرفقت الرسالة بعنوان المكان.
19:50 كنت في عبن المكان، في حي عصري، خال من المارة، بناية كبيرة مقارنة ببيوت الجوار، في انتظار الموعد تمشيت قليلا بالمكان، وأنا مستغرب لحجمها، خاصة مع واقعة لوحة مفاتيح مودي العبرية، وأن رقم هاتف أورا يبدأ ب+972، وهو رمز الاتصال الدولي لإسرائيل.
حانت اللحظة، 20:00، قرعت جرس الباب الخارجي، فُتح الباب آليا، ودخلت حديقة كبيرة، تمشيت نحو باب أول بناية، رحبت بي سيدة بالإنجليزية بعد أن خاطبتها بالعربية، ظننت أنها أورا، ثم ظهر طفل في بداية عقده الثاني، قال لي: "أنا بتكلم عربي، بتسأل على مين؟" ثم أعقب: "بتسأل على أورا؟"، أجبته بالتأكيد.
قدِمت أورا، أربعينية جميلة، ملامحها هادئة، تلبس ثوبا طويلا أبيض، حافية القدمين ودون غطاء رأس. تتحدث عربية متقطعة. رحبت بي، ورافقتني لنقطة أخرى بالحديقة، حيث نادت على رجل تقول: "شيخ إيهاب، شيخ إهاب"، قدم الشيخ، قدمتني له: "توفيق من المغرب" رحب بي بعناق حار وكلمات لطيفة.
شيخ إهاب، رجل في أواخر الأربعينات أو بداية الخمسينات، يلبس لباسا أبيض مكونا من عدة قطع، لباسه يميل للباس الأفغان، بشعر طويل ملولب، رمادي اللون، ملامحه حادة وواضحة، ويطبع حضوره وقار وهيبة، فلسطيني، وهو زوج أورا.
اتضحت بعدها عندي الصورة نوعا ما، كون رقم الهاتف إسرائيلي، فهمت أن الشيخ وزوجته، من فلسطينيي الداخل.
التحقنا بغرفة جلوس كأنها متحف، كان بها طفلان في عقدهما الثاني، كانا أبناءه، حاورني أصغرهما عند مدخل البيت في بداية الزيارة. أبديت إعجابي وانبهاري بالغرفة وتزيينها والكتابات واللوحات وأثاثها وبلاطها. ثم دعاني الشيخ للجلوس، سألته عن مكان جلوسه المعتاد، حتى لا أتطفل عليه، أشار علي به، فجلست عن يمينه.
افتتحت حديثي بمشاركته بعض ما يخالجني عن التصوف ومقاماته، موضحًا أن ليس كل من يدّعي التصوف (في نظري) يعيشه حقيقةً، إذ إن الارتقاء في درجاته يتطلّب اشتغالًا عميقًا على الوعي والإدراك، رحلة يقطعها الفرد وحيدًا مع ذاته. ورغم أن التصوف عادة ما يرتبط بالدين، فإن تجربته في مستويات متقدمة تتقاطع مع الممارسات الروحية للهندوسية والبوذية، وحتى مع مستويات عالية من الوعي والإدراك لدى غير المتدينين. أسميته “تصوفًا لا دينيًا”، على أن المسمى واحد، والتسميات مختلفة، كأن الطرق كثيرة ومتشابكة، لكنها تتلاقى في المصب نفسه.
دخل علينا توفيق، تركي، جلب كأسي شاي لنا. ثم شابة أوروبية إسمها ليز، جلست على يسار الشيخ، تكفل هو بالترجمة لها للإنجليزية.
بدأ كلامه بعد أن ترجم ما قلت. ثم أتبعه توضيحا قال فيه: أن التصوف واحد، وهو التصوف الإسلامي، فلا تستقيم تسمية تصوف يهودي أو مسيحي أو إلحادي.
ثم دخلت علينا شابة أخرى جلبت قارورتي ماء غازي لكلينا. وأخيرا أخرى أحضرت كأس ماء للشيخ.
ومما استرعى انتباهي، هو أن كلّ من دخل، حين يخرج، لا يولّي الشيخ ظهره. بل يبقى منحنيا انحناءة خفيفة ومقبلا عليه، راجعا بخطى قصيرة للوراء، لغاية باب الغرفة، في احترام وتقدير وإجلال. ثم ينتعل حذاءه ويلقي التحية مرة أخرى وينصرف.
بعدها أردف الشيخ يتحدث عن تطهير القلب ما استطاع المرأ، من الكبر والرياء والحسد والحقد والطمع، حتى يكون جاهزا للاتصال بالخالق.
ثم تطرق لمقامات ومراتب النفس، من النفس الأمارة بالسوء، وهي أدناها، ثم النفس العابدة كما سماها، وهي أعلى الدرجات، مرورا باللوامة والملهمة والمطمئنة والراضية والمرضية.
أمضينا حوالي ساعة كاملة من الحديث، عرفت أن هذا المنزل الكبير، هو الدرگة المولوية (الزاوية بدارجتنا المغربية أو التكية)، وهو مقر الطريقة المولوية في قونيا، الطريقة المنسوبة لمولانا جلال الدين الرومي. وأن الشيخ إهاب، هو أحد شيوخ الطريقة في قونيا، يُشرف على تأطير المحبين والمريدين.
رافقني بعدها في جولة بالتكية، مساكن الدراويش، المطبخ الروحي، المسجد، قاعات السماع...
البناية والغرف والمطبخ والصور على الحائط، تحسسك أنك في زمان غير الزمان، وكأن الوقت توقف قبل قرن هنا، لوحات وصور بالأبيض والأسود وأثاث كلاسيكي عتيق.
لاحظت تكرر صور رجل على الحائط، سألت الشيخ عنه.
أخبرني أنه حياة الداده، وهو آخر سليل روحي رسمي لجلال الدين الرومي، قبل إغلاق التكايا والزوايا بقرار مصطفى كمال أتاتورك سنة 1925، حيث حُوّلت إلى متاحف. وأن قبلها بمدة قصيرة، وحين بدأ التضييق على المتصوفة بتركيا، أرسل ابنه جلال الدين لأمريكا في رحلة باتجاه واحد، مع وصية أن يحافظ على الطريقة، وأن يعرف بها.
كما أخبرني أن التكية التي نحن الآن بها، كانت بيت حياة الداده، وأنها أصبحت تكية بعد أن حُولت التكية الأصلية لمتحف.
دعاني بعدها للعشاء، توسط هو وأورا المائدة الطويلة، كنا حوالي ثلاثين فردا، بين محب ومريد، قام أحدهم من مقعده على يمين الشيخ ودعاني بصفتي الضيف للجلوس مكانه، شكرته، ثم بدأت حوارا بالفرنسية مع كارين على يميني، شابة إيرانية من مريدي الطريقة، بحلاقة شعر غريبة، تعيش رحالةً، سألتها من بين ما سألتها عن تمويل سفرياتها، فأجابت: "Tu dois croire en l’univers"، ثم أعطتني نماذج عن كيف مولت بعض سفرياتها في أماكن مختلفة من بلدان آسيا.
كان الشيخ إهاب وأورا سيشدون الرحال في اليوم الموالي لفلسطين. وكان المحبون والمريدون في تلك الليلة وأسبوع قبلها معتكفين بالدرگة مع الشيخ يتدارسون.
بعدها انخرطنا في دعاء جماعي، افتتحه الشيخ، ثم الصلاة على النبي، وتلاوة بعض آيات القرآن الكريم، ثم بدأنا العشاء.
ونحن نتلوا الأدعية والصلوات، أحسست بفخر لا أستحقه، كوني عربي اللسان، وأحفظ الأدعية وآيات القرآن.
حين خرجت من التكية، كانت الساعة العاشرة والنصف. ابتسامة ورضى وسكينة، عن ما آلت إليه الجولة، وعبارة «Tu dois croire en l’univers» تتردد في داخلي.
أسأل نفسي: ما احتمال أن أصل إلى تكية مولوية، وفي أي مكان، في عاصمة التصوف في العالم، وبعد أربع ساعات فقط من وصولي!؟ وما احتمال أن أجالس الشيخ وجها لوجه؟