اليوم الثالث، مشمس ورطب كسابقيه، كأن الجو متحامل عليك عن سبق إصرار.
اليوم، وعلى غير عادتي، كان لي برنامج، بدأته بأن قصدت البقالة القريبة من البيت لأشتري قارورة ماء، هناك، كما في كل مرة، التقيت بالبائعة، لا يجمعنا الكثير، سوى ابتسامات متبادلة وكلمة واحدة تشقّ الصمت: “ووتر”. صداقة بسيطة، ولدت بلا ضجيج، كأنها استراحة قصيرة من اختلافات اللغة والثقافة. علّمتها كلمة، وعلّمتني أن تجربتي مع الأتراك للآن تسير بخفة وود.
تتأكد هذه التجربة الودودة في كل مرة. بعدها، مثلاً، قصدت محلًا لأشتري قهوة نيسپريسو، طلبت قهوتي بابتسامة وكلمات امتنان. لترد البائعة بابتسامة مماثلة، وقهوة ساخنة، وحلوى صغيرة مجانية.
استقليت الحافلة، ثم عبارة لأعبر البوسفور، وأخيرا راجلا، اشتريت تذكرة دخول المتحف الأركيولوجي، كان المتحف غنيا جدا بالتحف، أدوات، تماثيل، نقوش، بقايا معمارية، مجوهرات، خزف... حتى أن كثيرا آخر وُضع في الحديقة أو في الطريق المؤدي للباب الرئيسي للمتحف لعدم كفاية المكان.
جناحان من المفترض أن يكونا ضمن التذكرة، كانا مغلقين بسبب الأشغال، ولأكون صريحًا، شعرت ببعض الارتياح لذلك من شدة الإرهاق.
خرجت من المتحف، مررت على مسجد آيا صوفيا والمسجد الأزرق وقصر السلطان، دون أن أميز أحدها عن الآخر من الإعياء، أو حتى أتكبد عناء الاستقصاء.
وصلت البيت، غرقت في قيلولة مطولة، بعدها كنت على موعد مهم جدا مع صديقتي مريم وزوجها وصديقي مُهند، في دار تُدعى: الدار. صاحب الدار سوري مقيم بإسطنبول، واظب على فتح باب بيته أيام الجمعة لكل مهتم غير تركي مقيم باسطنبول، جلسات هنا وهناك، بعضهم يتحدث، آخر يختلي بنفسه، آخر يحتسي شرابا، بعضهم يلعب الشطرنج وآخرون البينغ بونغ... وأنا وصديقيَّ، غرقنا في أحاديث عن أحوالي وأحوالهم، عن الحياة والمعنى والسفر...
كانت الجلسة والحوار مهمين عندي لاعتبار رجاحة عقل المحاوَرين، واعتبار كسر الاغتراب الذي عانيته منذ بداية سفري.
أنهينا الجلسة الماتعة في الدار، ببوفيه مفتوح ،فيه من كل نكهة وطن.