ما لم أذكره سابقا، هو أنه في اليوم الثالث، خلال جلستي مع مريم ومهند ب"الدار"، وبعد أن بدأت أستعرض أمامهما غزواتي وجولاتي، والبرنامج الضبابي الذي أتبعه. أتيت على ذكر أنطاليا جنوب البلاد، عندها انتفظ صديقي السوري معلقا: "طب ليش ما تدخل على سورية ؟"، توسعت حدقتا عيني من الدهشة، وسألته: "ما في ڤيزا للمغاربة ؟"، أجاب أن هناك ڤيزا عند الدخول مباشرة.
في تلك اللحظة، اجتاحتني سعادة غامرة، وشعرت أن جولة هذه السنة ستأخذ منعطفًا مثيرًا، بل إنه اقترح علي بعدها الدخول برا إلى لبنان.
منذ ذلك اليوم، وحتى اليوم العاشر من الرحلة، صار هدفي واضحًا: الوصول إلى غازي عنتاب، مع التوقف في بعض المدن للسياحة على الطريق. كنت في الشمال الغربي لتركيا، وغازي عنتاب في أقصى الجنوب الشرقي، وبيننا مئات الكيلومترات. قررت أن أعرج أولًا على طرابزون (شمال شرق تركيا) ليومين أو ثلاثة، قبل أن أتابع إلى قونية لثلاثة أيام. لكن بعد أن استشرت صديقي عبد الصمد (الخبير بدهاليز السفر)، حذرني من أن المرور عبر قونية سيطيل المسافة كثيرًا مقارنة بالذهاب مباشرة. أخذت بنصيحته.
المسافة بين طرابزون وغازي عنتاب حوالي 750 كم. في البداية قررت أن أستقل الطائرة لتجنب عناء الرحلة الطويلة، لكن اكتشفت أن الرحلة تمر عبر إسطنبول، وكبريائي لم يسمح بأن تذهب رحلة الـ20 ساعة برًّا سدى، فقررت في خطوة انتحارية أن أضيف لها 16 ساعة أخرى بالحافلة، وليكن ما يكون.
في اليوم الموعود، خرجت من المنزل الساعة 7:30 صباحًا لألحق حافلتي، تمام 8:30. الطريق للمحطة كان حوالي 20 دقيقة مشيًا، لكنني ضللت الطريق لأن موقع المحطة في خرائط Google لم يكن محينًا. وصلت في النهاية تمام 8:27، في آخر لحظة.
لن أطيل في وصف الرحلة، فأنتم تعرفون مسبقًا كيف كانت. لكن مما لفت انتباهي: تفاني مساعد السائق في أناقته وإتقان عمله. والانبهار بعدد الأنفاق التي عبرناها، والتي تجاوزت 25 نفقًا، من بينها أطول نفق في تركيا: نفق زيغانا، بطول يتجاوز 14 كيلومترًا وسط الجبال. إضافة إلى لطف الأتراك الذين التقيت بهم، لم يعتادو على لقاء السياح في ذاك الجزء من البلد. كما جرى التحقق من هويات الركاب في الحافلة ثلاث مرات، مرة من الجيش، ومرتين من الشرطة.
سمعت لسميح شقير (فنان سوري) طول الطريق، وكان سماعي له هاته المرة له بعد روحي جميل.
كنت قد نسقت تفاصيل الرحلة مع مهند، الذي بدوره رتب الأمر مع حمودة (أخوه)، الذي كان حينها في حلب، ليرافقني ويساعدني على إيجاد فندق هناك، ويفهمني النظام، ويساعدني في صرف الدولار والليرة التركية التي بحوزتي إلى الليرة السورية، بما أن أجهزة الصراف الآلي لا تعمل في سوريا رغم رفع العقوبات، لأن الإجراءات تأخذ وقتًا.
حجزت غرفة في فندق بغازي عنتاب على تطبيق Otelz، وصلت الفندق الساعة الواحدة صباحا، ليفاجئني مدبره أنهم لا يتعاملون مع هذا التطبيق، وأنه يجب أن أعيد دفع مستحقات المبيت نقدا (أشك أنه تم النصب علي).
6:30 صباح اليوم الموالي، استيقظت، خرجت بعدها أبحث عن صراف آلي، لأسحب النقود التي سأحتاجها في مقامي بسورية ولبنان، لاقيت صعوبات تقنية للسحب بالليرة التركية، ثم أخيرا سحبت حاجتي بنسبة عمولة 8% من صراف يتبع لبنك قطر الوطني.
وأنا في هذا البحث عن الصراف، لاحظت الفروق الشاسعة بين مدن الشمال والجنوب، لعنة قارات ودول ومدن وقرى الجنوب. كان الهواء ثقيلاً هنا وكأنّه يحمل أثقالا غير مرئية، السماء مشرقة لكن كئيبة، ألوان المباني باهتة ومتعبة، والطرقات، طرقات تحكي النسيان، وعلى ملامح المارة تقرأ قهر الزمان.
لا أعرف، أهو بؤسي أسقطته على المدينة، أم هي مررت لي بعض كآبتها؟
حملت متاعي، وركبت من أمام الفندق حافلة منهكة وقديمة الطراز، تحكي عبر صدأها وحفيف نوافذها تاريخًا طويلاً، قاصدا المحطة الطرقية.
ركبت ميكرو باص متجها لمدينة كِلِّس، مدينة حدودية تذوب معها الحدود مع سورية، وجوه ومناخ وطرقات وبنايات ومحلات وحتى عربات، كل شيء يوحي أنك في سورية.
ما إن وطئت قدمي أرض المدينة، حتى هجم علي بالتتابع سائقو التاكسيات (أكثر من 10 سائقين) بعروضهم ليقلوني إلى المعبر، تراوحت الأثمنة بين 65 و100 دولار، ولأني مراكشي وابن مدينة سياحية، لي دراية متواضعة بطرق النصب على السياح، فلم أذعن. تواصلت مع حمودة، أشار علي أن أبحث في المحطة عن وسيلة نقل للريحانية، بلدة تبعد حوالي 6 كلم عن باب الريحانية.
دخلت محطة كِلِّس، وأنا في مفاوضات مع أحد العمال بالمحطة، وقف ثالث، وطلب جواز سفري، قلت له: لم ؟ ليرفع في وجهي حهاز اللاسلكي ويجيب الثاني: "پوليس".
بقيت مع الشرطي 25 دقيقة ليتحقق من هويتي، صوت اللا سلكي يملأ الفراغ في الحوارات بيننا التي تكلف شاب سوري بتيسيرها.
بعد أن أفرج عني، في جو صحراوي حار، تنقلت عبر عدة ميني باصات متعبة ومكتظة أحيانا، نحو أكبز، ثم كاراخاس، ثم الريحانية، وأخيرا تاكسي نحو معبر باب الهوى.
وأنا في هذه الطريق المجهدة، نحو تسع ساعات لأجتاز مسافة 220 كيلومترًا، قررت في لحظة أن أُطفئ خاصية التذمر، وأوقف احتجاجي. كنت فقط أشاهد، أشاهد نفسي، أشاهد الآخرين، وأراقب الوقت وهو يمرّ بثقل. حتى إنّي لم أحقد على انتهازية السائقين.
خلال تلك الرحلة، فكرت في الآلاف الذين عبروا هذه الطريق وهذه الأرض قبلي: لاجئون هربوا من ويلات الحروب، نازحون يبحثون عن ملاذٍ وبعض من الأمان، و”مجاهدون” اختاروا مسلكًا مختلفًا لحياتهم. رغم اختلاف دوافعهم، اشتركوا جميعًا في نقش تاريخ هذه الأرض.