مشاعر وأحاسيس غريبة. تحريت قبل البدأ في الرحلة إن كان المعبر مفتوحا في وجه السياح، وكان الجواب نعم، ولكن سائق التاكسي قال لي في طريقنا أن المعبر مخصص فقط للسوريين، فبدأ الشك يراودني في ما إذا كنت سأتمكن من العبور، وبدأ شريط الخمسة أيام السابقة يمر أمامي بسرعة البرق، متسائلا: كيف؟ كل هذا العناء لأجل.. لا شيء!
ترجلت عن سيارة الأجرة حاملاً متاعي، متجهًا نحو المعبر. شمس حارقة والرياح بلا وجهة واضحة تخفف قليلاً من وطأة الحر. جنود وشرطة حدود أتراك ينتشرون هنا وهناك، ولاجئون سوريون، شيوخ وكبار وأطفال، مثقلين بمتاعهم. أصوات الصغار تختلط بضجيج المكان، في فضاء مفتوح، كراسي خشبية طويلة تحت مظلة تحجب بعض الشمس، وسياج معدني يشرف عليه شرطيان، يفصل كل هؤلاء عن بناية كبيرة تقف في الجهة المقابلة.
وقفت في صف، وجهزت رسالة بالتركية على هاتفي مرفوقة بجواز سفري. جاء علي الدور، مددت الجواز والهاتف لجندي في المعبر، سأل عن جنسيتي، ثم استشار جندية بجانبه باللغة التركية، في نفس الوقت الذي قالت لي فيه شابة سورية أنه لا يُسمح للسياح بعبور المعابر البرية. قال لي اذهب واسأل شرطي الحاجز، وقفت في زحام مع طالبي عبور آخرين، انتظرت انتهاء الشرطي من حديثه مع شاب لاجئ يود العبور، أريته جوازي وطلبت منه العبور لمصلحة الجوازات في الجانب التركي، قال لي ما معناه: يجب أن تهبط على سوريا بالطائرة، وليس برا. أكد لي شاب آخر ذالك.
جلست دقائق على الكراسي الخشبية. أراقب المشهد كاملًا: تجاعيد الشيوخ، بكاء الرضع، لعب الأطفال… كل واحد منهم يحمل قصة، بعضها قد لا يُروى أبدًا.
عقدت العزم أن أعيد المحاولة علَّ أحد حرس الحدود يرق لحالي، صغت الرسالة الآتية بالتركية: "مساء الخير، هل يستطيع أحد لو أمكن أن يتأكد لي من إن كان ممنوعا على المغاربة أن يدخلوا إلى سوريا برا؟ لقد أتيت من أسطنبول لكي أدخل لسوريا."
سأل لي أحد الحراس مرة أخرى، وأكد أن الحدودة مقفلة في وجه السياح.
خرجت مطأطئ الرأس، أقول في نفسي مواسيا: "متى كانت الوجهة هي الغاية؟".
استحضرت مشاهدات ولقاءات، إحباطات وإنجازات الأيام الماضية، وقلت في نفسي: هذه كانت، ولا تزال، رحلتك… بحلوها وانتكاساتها.
أخذت تاكسي مع سوريين مجنسين عادو لتوهم، وسائق تركي يُتقن العربية الشامية. تضامنوا معي لما علموا بمنعي من العبور.
لم تكن لدي وِجهة، أحسست بالتيه، ركبت التاكسي وفقط، ولم أرد أن أمضي ليلتي في واحدة من مدن الحدود، راكبا فكرت في الذهاب لأضنا، أحدهم كان اقترحها في التعاليق على منشور سابق. سألت الراكب أمامي كيف السبيل لبلوغها، قال يجب أن أذهب لمحطة أنطاكيا. كان الراكبان معي متوجهين بعد الريحانية لأنطاكيا، اقترح السائق أن يقلنا جميعا لها على أن ندفع له الفرق.
اشترط الراكب أمامي على السائق التوقف في محل للورود في الريحانية. وبينما كنا ننتظره، دار بيني وبين الراكب الجالس بجانبي حوار عن رحلتي ورحلته - بعد أن باركت له سقوط النظام -، رحلتي في الأيام العشرة الماضية، ورحلته في الخمسة عشر عامًا السابقة.
قُتل ابنه البكر خالد، بدم بارد، ودون محاكمة، هو و49 جنديا آخرين، قررو الهروب من الجيش العربي السوري لما اشتعلت الثورة. أوقفوهم بمحاذاة جدار، ثم أمطروهم بوابل من رصاص الرشاش الآلي. حكى لي عن بعض هول ما قاصاه الشعب على يد النظام في الريف السوري، صور من بشاعتها، لن أتطرق هنا لها. لما سألته عن الجولاني أجاب: "والله يحكمنا نتانياهو وما تحكمنا عائلة الأسد".
عاد صديقنا يحمل بين يديه باقة ورد. سأله السائق: “لمين هالورد؟” ردّ بثقة: “للغوالي” (قاصدًا أبناءه وزوجته).
ابتسمتُ. لكن السائق والراكب بجانبي لم يشاركاه الحماس، انتقدا فكرته، واعتبرا الورد مضيعةً للمال، وأنه سيذبل بعد يومين، حتى أن أحدهما قال: "والله هذا التضيع حرام حتى فديننا"، ورد الآخر: "لو كانوا غوالي بحق، كان جبت لهم ذهب". قال لهم أنه ورد پلاستيكي، لا يذبل. ثم زم فمه، طول الطريق.
بينما نحن في الصمت، اعتذر السائق لنا على غلاء الفاتورة، متحججا بغلاء كل شيء في تركيا مع تولي أردوغان الحكم. انتفض اللاجئ الجالس بجانبي مدافعًا عن الرئيس، لكن ما إن أنهى مداخلته حتى بدأ السائق يسرد، بالأرقام والأمثلة، هفوات رجب: من الوعود الكاذبة وشعبوية الخطاب لاستمالة الناخبين، إلى التطبيع المعلن والخفي مع إسرائيل، وخيانة نظام صدام سنة 2002 حين فتح للأمريكان ميناء إسكندرون، وصولًا إلى انفضاض أقرب مؤيديه عنه حين تكشّفت عيوبه.
عند وصولنا أنطاكيا، اتصلت بمهند. وحين علم أنني متجه إلى أضنة، تدخل قائلاً أن ليس فيها ما يستحق العناء، وأشار عليّ بتغيير الوجهة نحو إسكندرون. أخذت بنصيحته، وفي التاسعة مساءً كنت في الفندق، أجرّ خطواتي بثقل يوم طويل، وأفكر في كل تلك الطرق التي لم أخترها.