الليلة لكناوية.. تجربة موسيقية وروحية

أضيف بتاريخ 06/29/2023
محمد توفيق المغازلي

رحلتي من الرقص على إيقاعات الكمنجة والأورݣ، إلى الجذب مع حفاد الݣانݣاه.
كنت في عز انغناسي في العمل، عمل يأخذ من يومي أكثر من نصفه، كنت لا أميز بين الأيام، فكل أيام الله حينها كانت الإثنين، توصلت برسالة عبر الواتساپ تخبرني نهيلة فيها أن "الليلة" أو "الدرديبة" أو "دردبة" (تختلف المسميات والمسمى واحد)، تم تحديد موعدها وتوقيتها.
وضعتها على أجندتي كأولى الأولويات، وطبعا لم تكن لتُؤثر على سير العمل، لأن توقيتها يُوقر أوقاته.
ذاك اليوم، أشرفت بعد زواله على تسيير نشاط تلاميذي، بعد نهايته امتطيت الحصان، عدت لمعقلي، أخذت شاور، لبست عدة الليلة التي كان من أساسياتها أن يكون اللباس مريحا وفضفاض.
توصلت برسالة تحدد المكان، رياض بالمدينة القديمة بحي سيدي بنسليمان الذي سمي كناية عن ضريح وزاوية سيدي محمد بن سليمان الجزولي، كانت الساعة 23:00، لجمت الحصان بمنزلنا برياض العروس، وذهبت راجلا إلى مقصدي.
وصلت، كان المنزل هو الأخير في الصابة (الدرب النفق)، يُشرف على مدخلها أبناء الحي، بشوشين، متسامرين ومنتشين (بعضهم) بقليل أو كثير من المشاريب والدخان.
دخلت، كان عبيد الأمس أسياد الليلة، إيقاعات القراقب والطبول تَهز الحواس، جلست على الأرض متمايلا مع الإيقاعات مقبلا ومتلهفا ومتحمسا لما هو ٱت.
بدأنا ب"العادة"، خرجت الفرقة وخرجنا معهم للزاوية، الموسيقى متواصلة، التمايل ثابت في حقي في الطريق، إيقاعات رائعة، وأجواء أروع، ونحن أمام الزاوية، بدأت طقوس "النقشة"، الحليب والثمر، حليب ممزوج بماء الزهر أو الورد (لا أعلم، لا أميز بينهما كما لا أميز بين القزبور والمعدنوس)، وُضعا في زلافة كبيرة على طريقة الزريݣ عند أهل الصحراء، ترتشف منها وتمدها لليد الممدودة التي تليك، مرت رُبع ساعة ربما أو ساعة (لا أحد يعلم).
رجعنا، بدأت مرحلة "ولاد بامبارا" وهي الإعلان الرسمي عن بدء الليلة، يشرع فيها لمعلم لݣناوي في العزف على الهجهوج، تختتم هذه المرحلة ب"الكويو"، حيث توظف ٱلة لقراقب أيضا، وتقتضي هذه المرحلة بالضرورة أن نكون واقفين.
بعدها أتى بيت القصيد، "فتوح الرحبة" و"الملوك"، الملوك سبعة، سبعة ألوان، كل لون وأهله من عالم الجان، كان الأبيض فاتحتهم، ويرمز ل"مْلْك عبد القادر الجيلالي"، ارتفع الإيقاء، ارتفعت معه الشعورات والأحاسيس وزادت حدة التمايل، الطلَّاعات أو لمقدمات والمقدمين يتوسطون الحلقة يرقصون ويصفقون، سألت صديقتي الضليعة، "هانيا نوض نشطح ؟".
التحقت بالحلقة منتشيا وغير مستحضر الٱخر ونظراته.
أحضرت الطلاعة إيزارا أبيضا، غطت رأسي به، التحق ٱخرون، بلغو في دقائق مرحلة الإنطفاء، هروب من المعناة وإدراك للوحدة في الكون، إلغاء تام للوجود المادي.
كان اللون الذي يليه أخضرا، أعدت الكرة، رقصت، غطت رأسي المقدمة بخرقة خضراء، التحق الٱخرون، إنطفؤوا.
كان الدور على الأسود، ومن محاسن الصدف، كنت لابسا أسود في أسود، التتمة تعلمونها، أصبحت كشجرة مكفهرة تتطالمها الرياح، لا يظهر منها غير سيقانها.
بعد دقيقة رقص أقل أو أكثر، دخلت مرحلة النيرڤانا مريدة كانت بجانبي، بدأت تصدر أصواتا غليظة لا تتوافق مع شكلها الأنثوي ولباسها الأسود الجميل، قدمتني الطلاعة أمام لمعلم، علِّي أنتقل للعالم الٱخر كما البقية، بدأت ترمقني من تحت الخرقة بنظرات استهجان أو استغراب لا أعلم تحديدا، الموسيقى تتعالى، والإيقاعات تتسارع، والطايح اكثر من النايض، وصديقكم متشبث بالحقيقة، غلبني وجهي، قررت أن أعيد لها الخرقة وأجلس مكاني، وأنصرف لحالي بُعَيدها، كانت الساعة تشير حينها ل03:30 صباحا، وأنا أسلمها الخرقة، قالت لي بصوت شديد غليظ وبلطافة: "ما بيديرش العافية ؟" فأجبتها وأنا بين العالمين: "ندير العافية !!"، أعدت الخرقة فوق رأسي وواصلت الرقص إلى أن أتى الدور على "العافية"، المقدمة الثانية ممسكة بكومة شمع مشتعلة في كلتا يديها تمررها على عنقها وذراعيها، مررت الكومات لسيدة أولى ثم ثانية ثم لي، بدأت أمرر الشمع على يدي غير مبال لا بالتبعات أو الحروق الممكن أن تنتج عن هذا الفعل، كانت درجة الشعور بالألم في أدنى مستوياتها، بعد حوالي 20 ثانية، بدت لي رائحة مألوفة تغازل شعيرات أنفي، رائحة "تشواط الريوس فالعيد الكبير"، غير أن هذه المرة كانت المعني بالتشواط زغيبات ذراعي.
في استراحة الفرقة، بلغ مني العياء مبلغه، قررت الإنصراف، عزمت قبلها أن أسأل السيدة التي رقصت جانبي على إيقاء الأسود: "علاش نضتي شطحتي غير فاللون لكحل ؟"، أجابت: "حيت ملوكي كحلين، الجنون اللي ساكنيني كحلين".
فهمت بعد الحوار معها، أن الأصل أن يرقص المرأ في اللون الذي يوافق "ملوكو"، وأن "الحال" هو الذي يستدعيك للرقص 😅 وأن أمثالي وجب أن ينتظرو اللون الأخير، لون البهجة والسرور، الأصفر، لالة ميرة، اللون الذي يُرْقَص فيه للمتعة وليس إرضاءا لملوك الجان، حثتني على ضرورة انتظار لالة ميرة، أخذت مكانا مريحا في الجلوس، وبقيت منتظرا ميرة، وبين ميمونة وميرة، مررنا على عيشة ومليكة ورقية ولالة مريم الشلحة.
ولأني تعبت من الكتابة (رغم وجود تفاصيل أخرى تستحق الذكر)، كما تعبت أنت من القراءة، سأمر للخاتمة.
بلغت الساعة 07:00، قررت الانصراف علِّي أفوز بسويعات قليلة من النوم قبل أن أبدأ يوم العمل.
خارجا من الصابة، التقيت بالشباب المنتشي الجميل، حديث قصير جدا دار بيننا، قال لي فيه واحد منهم تفوح منه رائحة المشروب: "هادشي راه شرك بالله وبدعة"، ضحكت له ضحكة عبيطة مثقلة بالعياء، ومشيت لحالي.
استيقظت في10:00 صباحا، وكأني كنت في حلم جميل جدا، عشت فيه أجمل تجربة موسيقية وشبه روحية في تاريخي 🙌🏻
 
*****
أصدقائي الأعزاء، آراؤكم، تساؤلاتكم، وتشجيعاتكم واقتراحاتكم محل تقدير كبير، وأتشرف بها. لا تترددوا في مشاركتها معي في التعليقات.